فصل: تفسير الآيات (38- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (38- 44):

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
{قَالَ يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من العجائب الدالة على عظم القدرة وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟. {قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} فإنها إذا أتت مسلمة لم يحل أخذه إلا برضاها.
{قَالَ عِفْرِيتٌ} خبيث مارد. {مّن الجن} بيان له لأنه يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر أقرانه، وكان اسمه ذكوان أو صخراً. {أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف النهار. {وَإِنِّي عَلَيْهِ} على حمله. {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} لا أختزل منه شيئاً ولا أبدله.
{قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} آصف بن برخيا وزيره، أو الخضر أو جبريل عليهما السلام أو ملك أيده الله به، أو سليمان عليه السلام نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في: {أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} للعفريت كأنه استبطأه فقال له ذلك، أو أراد إظهار معجزة في نقله فتحداهم أولاً ثم أراهم أنه يتأتى له مالاً يتأتى لعفاريت الجن فضلاً عن غيرهم، والمراد ب {الكتاب} جنس الكتب المنزلة أو اللوح، و{ءَاتِيكَ} في الموضعين صالح للفعلية والاسمية، (والطرف) تحريك الأجفان للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف كما في قوله:
وَكُنْت إِذَا أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدا ** لِقَلْبِكَ يَوْماً أَتْعَبَتْكَ المَنَاظِرُ

وصف برد الطرف والطرف بالارتداد، والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها بين يديك، وهذا غاية في الإِسراع ومثل فيه. {فَلَمَّا رَءَاهُ} أي العرش {مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} حاصلاً بين يديه. {قَالَ} تلقياً للنعمة بالشكر على شاكلة المخلصين من عباد الله تعالى: {هذا مِن فَضْلِ رَبّي} تفضل به عليَّ من غير استحقاق، والإِشارة إلى التمكن من إحضار العرش في مدة إرتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه أو غيره، والكلام في إمكان مثله قد مر في آية (الإِسراء). {لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ} بأن أراه فضلاً من الله تعالى بلا حول مني ولا قوة وأقوم بحقه. {أَمْ أَكْفُرُ} بأن أجد نفسي في البين، أو أقصر في أداء مواجبه ومحلها النصب على البدل من الياء. {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ويحط عنها عبء الواجب ويحفظها عن وصمة الكفران. {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّي غَنِيٌّ} عن شكره. {كَرِيمٌ} بالإنعام عليه ثانياً.
{قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} بتغيير هيئته وشكله. {نَنظُرْ} جواب الأمر، وقرئ بالرفع على الاستئناف. {أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} إلى معرفته أو الجواب الصواب، وقيل إلى الإِيمان بالله ورسوله إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليها الحراس.
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} تشبيهاً عليها زيادة في امتحان عقلها إذ ذكرت عنده بسخافة العقل. {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} ولم تقل هو لاحتمال أن يكون مثله وذلك من كمال عقلها. {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} من تتمة كلامها كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت: وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصحة نبوتك قبل هذه الحالة، أو المعجزة مما تقدم من الآيات. وقيل إنه من كلام سليمان عليه السلام وقومه وعطفوه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله ورسوله حيث جوزت أن يكون ذلك عرشها تجويزاً غالباً، وإحضار ثمة من المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله تعالى ولا تظهر إلا على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي وأوتينا العلم بالله وقدرته وصحة ما جاء به عنده قبلها وكنا منقادين لحكمه ولم نزل على دينه، ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم في ذلك شكر الله تعالى.
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} أي وصدها عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإِسلام، أو وصدها الله عن عبادتها بالتوفيق للإِيمان. {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} وقرئ بالفتح على الإِبدال من فاعل صدها على الأول، أي صدها نشؤها بين أظهر الكفار أو التعليل له.
{قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح} القصر وقيل عرصة الدار. {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} روي أنه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من الزجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه، فلما أبصرته ظنته ماء راكداً فكشفت عن ساقيها. وقرأ ابن كثير برواية قنبل {سأقيها} بالهمز حملاً على جمعه سؤوق وأسؤق. {قَالَ إِنَّهُ} إن ما تظنينه ماء. {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} مملس. {مّن قَوارِيرَ} من الزجاج.
{قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بعبادتي الشمس، وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت أنه يغرقها في اللجة. {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين} فيما أمر به عباده وقد، اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان.

.تفسير الآيات (45- 60):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا أَنِ اعبدوا الله} بأن اعبدوا الله، وقرئ بضم النون على اتباعها الباء. {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} ففاجئوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق، والواو لمجموع الفريقين.
{قَالَ يَا قَوْمٍ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة} بالعقوبة فتقولون ائتنا بما تعدنا. {قَبْلَ الحسنة} قبل التوبة فتؤخرونها إلى نزول العقاب فإنهم كانوا يقولون إن صدق إيعاده تبنا حينئذ. {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} قبل نزوله. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بقبولها فإنها لا تقبل حينئذ.
{قَالُواْ اطيرنا} تشاءمنا. {بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} إِذ تتابعت علينا الشدائد، أو وقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم. {قَالَ طَائِرُكُمْ} سببكم الذي جاء منه شركم. {عَندَ الله} وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بتعاقب السراء والضراء، والإِضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه.
{وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ} تسعة أنفس، وإنما تمييزاً للتسعة باعتبار المعنى، والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، والنفر من الثلاثة إلى التسعة. {يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} أي شأنهم الإِفساد الخالص عن شوب الصلاح.
{قَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض. {تَقَاسَمُواْ بالله} أمر مقول أو خبر وقع بدلاً أو حالاً بإضمار قد. {لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} لنباغتن صالحاً وأهله ليلاً. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على خطاب بعضهم لبعض، وقرئ بالياء على أن تقاسموا خبر. {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ} فيه القراءات الثلاث. {لِوَلِيِّهِ} لولي دمه. {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} فضلاً أن تولينا إهلاكهم، وهو يحتمل المصدر والزمان والمكان وكذا {مُهْلِكَ} في قراءة حفص فإن مفعلاً قد جاء مصدراً كمرجع. وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدراً. {وِإِنَّا لصادقون} ونحلف إنا لصادقون، أو والحال {إِنَّا لصادقون} فيما ذكرنا لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفاً، أو لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رأيت ثمة رجلاً بل رجلين.
{وَمَكَرُواْ مَكْراً} بهذه المواضعة. {وَمَكَرْنَا مَكْراً} بأن جعلناها سبباً لإِهلاكهم. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بذلك، روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه فقالوا: زعم أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقع عليهم صخرة حيالهم فطبقت عليهم فم الشعب فهلكوا ثمة وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة كما أشار إليه قوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ أَنَّا دمرناهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} و{كَانَ} إن جعلت ناقصة فخبرها {كَيْفَ} و{أَنَّا دمرناهم} استئناف أو خبر محذوف لا خبر {كَانَ} لعدم العائد، وإن جعلتها تامة ف {كَيْفَ} حال. وقرأ الكوفيون ويعقوب {أَنَّا دمرناهم} بالفتح على أنه خبر محذوف أو بدل من اسم {كَانَ} أو خبر له و{كَيْفَ} حال.
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} خالية من خوى البطن إذا خلا، أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط، وهي حال عمل فيها معنى الإِشارة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. {بِمَا ظَلَمُواْ} بسبب ظلمهم. {إِنَّ في ذلك لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيتعظون.
{وَأَنجَيْنَا الذين ءَامَنُواْ} صالحاً ومن معه. {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الكفر والمعاصي فلذلك خصوا بالنجاة.
{وَلُوطاً} واذكر لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً لدلالة ولقد أرسلنا عليه. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} بدل على الأول وظرف على الثاني. {أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} تعلمون فحشها من بصر القلب واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا يعلنون بها فتكون أفحش.
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} بيان لإتيانهم الفاحشة وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لاقضاء الوطر. {مّن دُونِ النساء} اللاتي خلقن لذلك. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تفعلون فعل من يجهل قبحها، أو يكون سفيهاً لا يميز بين الحسن والقبيح، أو تجهلون العاقبة والتاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي يتنزهون عن أفعالنا، أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذراً.
{فأنجيناه وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها مِنَ الغابرين} قدرنا كونها من الباقين في العذاب.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ المنذرين} مر مثله.
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعدما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظم شأنه وما خص به رسله من الآيات الكبرى والانتصار من العدا بتحميده والسلام على المصطفين من عباده شكراً على ما أنعم عليهم، أو علمه ما جهل من أحوالهم وعرفاناً لفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، أو لوطاً بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك. {الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} إلزام لهم وتهكم بهم وتسفيه لرأيهم، إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأساً حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء.
{أَمَّن} بل أمن. {خَلَقَ السموات والأرض} التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع. وقرأ أمن بالتخفيف على أنه بدل من الله. {وَأَنزَلَ لَكُمْ} لأجلكم. {مِّنَ السماء مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته، والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما أشار إليه بقوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} شجر الحدائق وهي البساتين من الإحداق وهو الإِحاطة. {أَءِلَهٌ مَّعَ الله} أغيره يقرن به ويجعل له شريكاً، وهو المنفرد بالخلق والتكوين. وقرئ: {أإلهاً} بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} عن الحق الذي هو التوحيد.

.تفسير الآيات (61- 70):

{أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)}
{أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً} بدل من {أَمَّنْ خَلَقَ السموات} وجعلها قراراً بإبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإِنسان والدواب عليها. {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا} وسطها. {أَنْهَاراً} جارية. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} جبالاً تتكون فيها المعادن وتنبع من حضيضها المنابع. {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} العذب والمالح، أو خليجي فارس والروم. {حَاجِزاً} برزخاً وقد مر بيانه في سورة (الفرقان). {أََءِلَهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} الحق فيشركون به.
{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} المضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجوء إلى الله تعالى من الاضطرار، وهو إفتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر. {وَيَكْشِفُ السوء} ويدفع عن الإِنسان ما يسوءه. {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض} خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم. {أََءِلَهٌ مَّعَ الله} الذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة. {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكرون آلاءه تذكراً قليلاً، وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة. وقرأ أبو عمرو وهشام وروح بالياء وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال.
{أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظلمات البر والبحر} بالنجوم وعلامات الأرض، وال {ظلمات} ظلمات الليالي وإضافتها إلى {البر والبحر} للملابسة، أو مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها. {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني المطر، ولو صح أن السبب الأكثر في تكون الرياح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لإِنكسار حرها وتمويجها الهواء فلا شك أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق الله تعالى، والفاعل للسبب فعل المسبب. {أَءِلَهٌ مَّعَ الله} يقدر على مثل ذلك. {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} تعالى الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق.
{أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} والكفرة وإن أنكروا الإِعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها. {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض} أي بأسباب سماوية وأرضية. {أَءِلَهٌ مَّعَ الله} يفعل ذلك. {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} على أن غيره يقدر على شيء من ذلك. {إِن كُنتُمْ صادقين} في إشراككم فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية.
{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله} لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة أتبعه ما هو كاللازم له، وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع، ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على أنه تعالى إن كان ممن في السموات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم، أو متصل على أن المراد ممن في السموات والأرض من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها، فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف.
{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} متى ينشرون مركبة من {أي} {وآن}، وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة.
{بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} لما نفى عنهم علم الغيب وأكد ذلك ينفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة بالغة فيه، بأن أضرب عنه وبين أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات وهو أن القيامة كائنة لا محالة لا يعلمونه كما ينبغي. {بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا} كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلاً. {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهذا وإن اختص بالمشركين ممن في السموات والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل، والإِضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم، وقيل الأول إضراب عن نفي الشعور بوقت القيامة عنهم إلى وصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً بهم، وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص: {بَلِ أَدْرَاكَ} بمعنى تتابع حتى استحكم، أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك، وأبو بكر {أدرك} وأصلهما تفاعل وافتعل. وقرئ: {أأدرك} بهمزتين {وآأدرك} بألف بينهما و{بل أدرك} و{بل تدارك} و{بلى أأدرك} و{بلى أأدرك} و{أم إدراك} أو {تدارك}، وما فيه استفهام صريح أو مضمن من ذلك فإنكار وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإِدراك على التهكم، وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها {بَلِ} إنهم {مّنْهَا عَمُونَ} أوْ رَدَّ وإنكار لشعورهم.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَاؤُنَا أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ} كالبيان لعمههم والعامل في إذا ما دل عليه {أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ}، وهو نخرج لا مخرجون لأن كلاً من الهمزة وإن واللام مانعة من عمله فيما قبلها، وتكرير الهمزة للمبالغة في الإِنكار، والمراد بالإِخراج الإِخراج من الأجداث أو من حال الفناء إلى الحياة، وقرأ نافع {إذا كنا} بهمزة واحدة مكسورة، وقرأ ابن عامر والكسائي {إننا لمخرجون} بنونين على الخبر.
{لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَاَ مِن قَبْلُ} من قبل وعد محمد صلى الله عليه وسلم، وتقديم هذا على نحن لأن المقصود بالذكر هو البعث وحيث أخر فالمقصود به المبعوث. {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} التي هي كالأسمار.
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم، والتعبير عنهم ب {المجرمين} ليكون لطفاً بالمؤمنين في ترك الجرائم.
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على تكذبيهم وإعراضهم. {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ} في حرج صدر، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وهما لغتان، وقرئ ضيق أي أمر ضيق. {مّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرهم فإن الله يعصمك من الناس.